الأحد، 9 نوفمبر 2025

٢.…شرح ديوان الحلاج (الحسين ابن المنصور الحلاج ) د. كامل مصطفى الشيبي


سيرة الحلاج
 شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي استاذ بجامعة بغداد
سيرة الحلّاج
هو أبو المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي « 1 » . ولد في قرية الطّور « 2 » في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء ، من مدن مقاطعة فارس بإيران ، في نحو سنة 244 هـ / 857 م « 3 » ، وكان جده « محمى » مجوسيا « 4 » .
دخل أبوه العراق مع أسرته من الحدود الجنوبية الشرقية الحالية ، عند البصرة ومناطق شط العرب - وكان يحترف حلج القطن - ليمارس مهنته في هذه المواضع التي يبدو أنها كانت مراكز لزراعة هذا المحصول وحلجه ونسجه . 
واستقرت الأسرة بواسط - في ما يبدو - وكانت مدينة كبيرة عامرة تقع في منتصف الطريق بين البصرة وبغداد ، وتقوم أطلالها الآن بالقرب من مدينة الحيّ من محافظة واسط ( لواء الكوت سابقا ) ، في العراق المعاصر .قضى الحلّاج صباه يتعلم في كتاتيب واسط ، وكانت حركة الزنج الشيعية ، الزيدية في رأي ماسينيون « 5 » ، قائمة على قدم وساق - إذ بدأت في سنة 255 هـ / 869 م - وللحلّاج نحو إحدى عشرة سنة ، ودوّخت الدولة
..................
( 1 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ( أبي بكر أحمد بن علي ، ت 463 هـ / 1071 م ) ، دمشق 1945 م ، 8 / 112 . وذكر هنا أنه كان يكنّى بأبي عبد اللّه أيضا ، وفي مطلع كتاب الطواسين كني الحلاج بأبي عمارة ( انظر ص 69 ) .
( 2 ) أيضا 8 / 112 ، أربعة نصوص غير منشورة تتعلق بالحلاج : رسالة ابن باكويه ( أبي عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الشيرازي ، ت 428 هـ / 1036 - 7 م ) ، ط . باريس 1914 م ، ص 28 .
( 3 ) المنحنى الشخصي لحياة الحلاج شهيد الصوفية في الإسلام لماسينيون ، ترجمة عبد الرحمن بدوي ضمن كتاب ( شخصيات قلقة في الإسلام ) ، مصر 1946 م ، ص 63 .
( 4 ) تاريخ بغداد 8 / 112 .
( 5 ) المنحنى الشخصي : شخصيات قلقة في الإسلام ص 65 سطر 8 .

« 24 »
العباسية أربع عشرة سنة واستولت على مناطق الأهواز وخوزستان وهاجمت البصرة نفسها في سنة 257 هـ/ 871 م « 1 » .قصد الحلّاج في أول شبابه إلى تستر ( شوشتر الإيرانية ) ، على شاطئ نهر كارون الذي يصب في شط العرب ، ليصحب سهل بن عبد اللّه التستري ، صاحب التفسير الصوفي الإشاري وأحد الصوفية البارزين في القرن الثالث الهجري ( ت 283 هـ / 896 م ) ، ودامت هذه الصحبة سنتين « 2 » . وفي سنة 262 هـ / 875 م ، انتقل الحلّاج إلى البصرة ليصحب عمرو بن عثمان المكي الصوفي البارز ( ت 297 هـ / 909 - 10 م ) لمدة سنة ونصف « 3 » ، وكانت ثورة الزنج في أوجّ قوتها ، ليتم على يديه ما بدأه مع سهل بن عبد اللّه التستري ويحتل مركزا مرموقا في الأوساط الصوفية في هذه المدينة بمساعدة أستاذه الجديد . وقد نال الحلّاج إعجاب شيخه الجديد وتوسّم فيه خيرا وصلاحا وتوقّع له مستقبلا زاهرا في عالم الروح . 
وفي هذه الأثناء هفت نفس الحلّاج إلى الزواج ، فبنى بأمّ الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع « 4 » ، منافس عمرو بن عثمان المكي على زعامة الصوفية في البصرة ، مما أدى إلى خصومة ووحشة بين الشيخين « 5 » نتيجة تنافسهما على استخلاص الحلّاج الذي كان يعتزل في جامع البصرة « يتعبد ويتصوف ويقرئ » « 6 » . محمد البغدادي ، شيخ الطائفة ( الصوفية ) ( ت 298 هـ / 910 - 11 م ) يستشيره ويستنصحه « فأمره بالسكون والمراعاة » « 2 » ، فصبر على ذلك مدة . ولما استمر الأمر ، مقرونا بالظروف الصعبة التي كانت البصرة كلها تعانيها ، ترك الحلّاج المدينة قاصدا مكة لأداء فريضة الحج ، وجاور هناك سنة كاملة أنفقها في ممارسة أشقّ الرياضات الصوفية بتعريض جسده لأشدّ ألوان العذاب الجسماني ، من اقتصار على الخبز والماء وتعرّض لأشعة الشمس اللافحة ، في جبال مكة الجرداء « 3 » . 
وذكر عنه في هذه الفترة أنه « كان مشهورا بصحبة صوفي بمكة بعد مفارقته صوفية فارس » « 4 » .
وبعد عودة الحلّاج من مكة بدا للناس في صورة شيخ واثق في نفسه إلى حد الإفراط ، واستقل في العمل ، وحمله طموحه على أن يشطح في عباراته ويبالغ في مواجيده ولا يتحرى الحيطة في أفعاله مما أثار ثائرة الصوفية ، وشيخهم الجنيد على الخصوص ، وكانوا يتوقّعون كثيرا من اطّلاع الناس على أسرارهم الثقافية والتطبيقية خشية وقوعهم تحت طائلة الفقهاء من
......................................
( 1 ) نشوار المحاضرة ص 12 .
( 2 ) تاريخ بغداد 8 / 112 ، أربعة نصوص ( نص ابن باكويه ) ص 28 .
( 3 ) أيضا 8 / 112 ، وفيه ، أن الحلاج دخل إلى مكة « وكان أول دخلته » ، « فجلس في صحن المسجد سنة لا يبرح من موضعه إلا للطهارة أو للطواف ولا يبالي بالشمس ولا بالمطر . وكان يحمل إليه كل عشية كوز ماء للشراب وقرص من أقراص مكة ، فيأخذ القرص ويعضّ أربع عضات من جوانبه ويشرب من الماء ، شربة قبل الطعام وشربة بعده ، ثم يضع باقي القرص على رأس الكوز فيحمل من عنده » . وذكر أنه رآه جمع من الصوفية و « هو جالس على صخرة من ( جبل ) أبي قبيس في الشمس . 
والعرق يسيل منه على تلك الصخرة » . وكان تعليق أحد الصوفية على هذا المشهد قوله لعمرو بن عثمان المكي - الذي حضر هذه الواقعة : « إن عشت تر ما يلقى هذا ، لأن اللّه يبتليه ببلاء لا يطيقه : قعد يتصبر مع اللّه » .
( 4 ) المغني في أبواب التوحيد للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي ( ت 415 هـ / 1024 م ) الجزء 15 ، التنبؤات والمعجزات ، تحقيق الدكتور محمود قاسم ، مصر 1965 م ، ص 720 .

« 26 »
ناحية ومراقبة الدولة ، التي كانت تعاني من الزنج ، من ناحية أخرى . وقد كان ثمن هذه الطموح الذي دفعه الحلّاج فقد شيخه عمرو بن عثمان المكي ومستشاره الجنيد « 1 » شيخ الصوفية كلهم . وكان عليه بعد هذا أن يعتمد على نفسه فقط .
وبدأ الحلّاج هذه المرحلة من حياته بالوعظ في الأهواز ، بالقرب من موطنه القديم ،زاهدا في خرقة التصوف نفسها « 2 » فألقاها عنه وجعل يخاطب الناس بكلام فلسفيّ ميتافيزيقي يعسر على أصحاب الثقافة العادية البسطاء من الناس إدراكه . ويبدو أن الحلّاج لم ينجح النجاح الذي توقعه هنا ، فانتقل إلى خراسان ليعظ الناس في الطالقان « 3 » بشرقي إيران ، حيث كانت تقوم حكومة شيعية زيدية منذ سنة 250 هـ / 864 م واستمرت فيها إلى سنة 345 هـ / 956 م لما ورث السامانيون ملك الزيديين هناك « 4 » . وإذ لم تطب الإقامة للحلّاج هناك ، عاد إلى الأهواز ومنها قصد إلى بغداد ، صحبة جماعة من المعجبين ، ليقيم فيها مع أسرته « 5 » . ويبدو أن الظروف في بغداد لم تكن مواتية بفعل خصومة الصوفية للحلّاج . ومن هنا ضاقت به الحال من جديد فاتجه إلى مكة ليحج ثانية ويبتعد بنفسه عن بغداد حتى تصفو الأمور . لكن الحلّاج لم يعد إليها بعد إتمام الحج ، بل آثر أن يبتعد عن بغداد مدة أطول وأن يبدّل الأوطان والخلّان ؛ وهكذا شرّق في رحلة واسعة شملت التركستان والهند إلى أن بلغ الصين [ - ماصين ] « 6 » . وفي
………………………........
( 1 ) تاريخ بغداد 8 / 113 ، نص ابن باكويه ص 28 .
( 2 ) تاريخ بغداد 8 / 113 ، نص ابن باكويه ص 28 .
( 3 ) المنحنى الشخصي ( شخصيات قلقة في الإسلام ص 67 ) ، ويذكر ولده حمد ( ولعله أحمد المذكور آنفا ) أن الحلاج قصد في هذه الفترة إلى « خراسان وما وراء النهر ودخل إلى سجستان وكرمان ثم رجع إلى فارس » ( أربعة نصوص ، النص الثالث ، ص 28 ) .
( 4 ) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية ، لجامع الديوان ، بغداد 1966 م ، ص 43 .
( 5 ) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية ، لجامع الديوان ، بغداد 1966 م ، ص 43 .
( 6 ) أربعة نصوص ، الرسالة المذكورة ص 28 . وعن رحلة الحلّاج إلى الهند ذكر ابن الجوزي أن أحمد الحاسب قال لابنه علي : « وجهني المعتضد ( حكم بين سنتي 279 - 289 ه / 892 - 902 م ) إلى الهند ، وكان معي في السفينة رجل يعرف بالحسين بن منصور ، فلما خرجنا من المركب قلت له : في أي شيء جئت إلى ههنا ؟ قال : جئت -
« 27 »ليكون في وسعه في النهاية أن يتعلم من اللّه ويصدر عنه على الصورة التي ظهرت في آدم لما علّمه تعالى الأسماء كلها ، وفي المسيح لما مكنه من إحياء الموتى ، وفي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما أظهر على لسانه القرآن معجزته الكبرى .
وكان من رأي الحلّاج في هذه الفترة أن صاحب الدعوة ينبغي أن يمضي في...............................................
- لأتعلم السحر وأدعو الخلق إلى اللّه » ( المنتظم 6 / 161 ) . ويبدو أن هذا الخبر هو الذي حمل ابن تيمية أن يقرر أن للحلّاج كتابا مشهورا في السحر ( انظر : رسالة في الجواب عن سؤال عن الحلّاج : هل كان صديقا أم زنديقا ؟ ) لابن تيمية ضمن كتاب :
جامع الرسائل ، المجموعة الأولى تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ، مصر 1389 هـ / 1969 م ، ص 188 .
 ( 1 ) انظر الديوان في قافية الميم ، وراجع المنحنى الشخصي من كتاب شخصيات قلقة في الإسلام ص 69 .
( 2 ) تاريخ بغداد 8 / 113 .

« 28 »
دعوته إلى الغاية التي ما بعدها غاية دون تراجع ، أسوة بإبليس ، رئيس الملائكة السابق ، الذي لم يبال بغضب اللّه عليه لما أمره بالسجود لآدم ، وهو من طين أدنى من عنصره الناريّ ، وآثر أن يتمسك بفضل عنصره وسموّه ورفعته على الطين . وكان من رأي الحلّاج أيضا أنّ صاحب الفكرة ينبغي أن يتأسّى بفرعون الذي لم يستجب لنداء موسى لما دعاه إلى نبوّته حرصا منه على ألّا يجعل لإنسان سلطة إغلاق الطريق الواسعة التي يحق لكل إنسان أن يسلكها إلى اللّه في كل زمان ومكان . « 1 » وأخيرا كان من رأي الحلّاج أنه.........................................
( 1 ) انظر طاسين الأزل والالتباس من كتاب « الطواسين » للحلّاج ، باريس 1913 م ، ص 50 حيث يقع قول الحلّاج : « تناظرت مع إبليس في الفتوة فقال إبليس : إن سجدت سقطت من منزل الفتوة . وقال فرعون : « ما علمت لكم من إله غيري ( القرآن القصص ، 28 : 38 ) حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل » .
وعقّب الحلّاج على ذلك بقوله : 
« فصاحبي ( الصحيح : فصاحباي ) وأستاذي ( الصحيح : أستاذاي ) إبليس وفرعون ؛ وإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق في اليمّ وما رجع عن دعواه ولم يقر بالواسطة . . . وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي » .ومما يجلو هذه الفكرة ويزيل عنها طابع الكفر الصريح أن الحلّاج نفسه كان يرى في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وموسى ( عليه السلام ) نبيين من أفتى الأنبياء ، 
وقد أثر عنه أنه « سئل : يا شيخ ما تقول في ما قال فرعون ؟ قال : كلمة حق » فسئل : « ما تقول في ما قال موسى ؟ قال : كلمة حق ، لأنهما كلمتان جرتا في الأبد كما جرتا في الأزل » ( أخبار الحلّاج ، ص 29 ، أربعة نصوص ، النص الرابع ص 70 ) . 
كذلك قال الحلّاج : « ما صحت الدعاوى لأحد إلا لإبليس وأحمد ( صلى الله عليه وسلم ) غير أن إبليس سقط عن العين وأحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كشف له عن العين : قيل لإبليس : اسجد ، ولأحمد : انظر . هذا ما سجد وأحمد ما نظر ، ما التفت يمينا ولا شمالا -« ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى »( القرآن النجم / 53 : 17 ) .أما إبليس فإنه دعا لكنه رجع إلى حوله ، وأحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ادّعى ورجع عن حوله بقوله : بك أحول وبك أصول ، وبقوله : يا مقلب القلوب ، وقوله : لا أحصي ثناء عليك . . . » ( الطواسين : طاسين الأزل والالتباس ، ص 41 ) .
وكل هذا يقع تحت رأي الحلّاج من أنه: « ليس على وجه الأرض كفر إلا وتحته إيمان ولا طاعة إلا وتحتها معصية أعظم منها ولا إقرار بالعبودية إلا وتحته ترك الحرمة ولا دعوى المحبة إلا وتحتها سوء الأدب . لكن اللّه تعالى عامل عباده على قدر طاقتهم » ( أخبار الحلّاج ص 48 ) . وهو هنا يتكلم عن الأضداد التي يجمعها اللّه في مخلوقاته فيجعل واحدا منها ظاهرا والآخر كامنا تمكينا لها من تحقيق قضائه والنزول على -« 29 »
ينبغي عليه - إذا فشل في تحقيق فكرته - أن يأتمّ بالمسيح الذي بذل دمه قربانا للّه وغسل ذنوب البشر بسيل من حشاشته الإنسانية ليكشف عن أعينهم حجاب الجسد ويجلو عن أذهانهم وأفهامهم ما كانوا فيه من جهل وغفلة ووهم . 
ويبدو أن فلسفة الحلّاج في هذا البرنامج كانت تتمثل في أنّ موته في حال إخفاقه سيكون سببا في ثقة الناس به وتقديرهم لتضحيته وإيمانهم بفكرته على نحو ما حصل مع السيد المسيح ، وأن حياته الروحية بعد فناء الجسد ستخلص من أسار الزمان والمكان وتتيح له أن يراقب الناس من عل وقد بدأوا يتفهمونه شيئا فشيئا ويدركون أنه لم يخدعهم وإنما جاءهم بفكرة سبقت زمانهم ولم تتهيأ لها الظروف المناسبة . وهذا مصداق قوله :
على دين الصليب يكون موتي ..... ولا البطحا أريد ولا المدينة « 1 »
..................................
- حكمه متى شاء . ومن المعاني التي يسوقها القرآن في التعبير عن هذه الفكرة قول المشركين :( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى )( الزمر 39 : 3 ) .
ومما ينبغي أن يشار إليه هنا الأثر الذي خلفه هذا الرأي في الصوفية ومنهم جلال الدين الرومي ( محمد البلخي ، 604 - 672 هـ / 1207 - 75 م ) . الذي طبق نظرية الشرّ النسبي - كما يمكن أن يعبر عن هذه الفكرة هنا - على عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب شيخ الأولياء عند الصوفية فقال في ابن ملجم ما ترجمته :
ليس في مقدوري أن أمسّ شعرة منك * لأن القلم قد خطّ لك ما فعلت فلا تحزن ، فإني أنا الشفيع لك * فأنا سيّد نفسي لا عبد بدني
( مطاعن الصوفية لمحمد رفيع بن شفيع التبريزي ، ت بعد 1221 هـ / 1806 م ، مخطوط جامعة كمبردج رقم 16 .Browne D، ورقة 60 ب ) .
( 1 ) انظر الديوان قافية النون والشروح في الهامش . وفوق هذا ذيل ماسينيون على هذا المعنى بنص استفاده من لطائف المنن للشعراني ( مصر 1321 هـ ، 2 / 84 ) يقول فيه أبو العباس المرسي : « وما نقل عنه يصح تأويله ، نحو قوله : على دين الصليب يكون موتي ، ومراده أنه يموت على دين نفسه فإنه الصليب ، وكأنه قال : أنا أموت على دين الإسلام وأشار إلى أنه يموت مصلوبا ، وكذلك كان » . وإذا كان هذا هو المقصود فإن الصوفية قد تنبؤوا بقتل الحلّاج مصلوبا أيضا .( انظر : الفرق بين الفرق للبغدادي ، مصر 1947 ، ص 157 - 8 ، التبصير في الدين للأسفرايني ، مصر 1940 م ، ص 77 رسالة الغفران : رسالة ابن القارح ، ط 3 ، ص 36 ، وهذه النبوءة تنسب إلى الجنيد مرة ، إلى الشبلي أخرى ، وتتمثل في عبارة تقول : أيّ خشبة تفسد وهو معنى عبر عنه أبو يوسف القاضي : يعقوب بن إبراهيم الإنصاري ( 113 - 182 هـ / 731 - 798 م ) بقوله لبشر بن عياث المريسي ، المتكلم القائل بخلق -

« 30 »
وفي بغداد بشر الحلّاج بدولة الروح هذه عشر سنوات كاملات ، أنفقها جميعا في العمل السري ، وفقد خلالها مودة الصوفية من أصدقائه كالشبلي وغيره لاستعظامهم دعوته وخوفهم من غوائلها . واستقر الحلّاج في بغداد استقرار رجل له غايات بعيدة « وتغير عما كان عليه في الأوّل واقتنى العقار وبنى دارا ودعا الناس » « 1 » . 
وفي هذه المرحلة اتضح للحلّاج منذ اللحظة الأولى أن الدولة والنظام العباسيين حجر عثرة في طريقه وأنهما ينبغي أن يزولا « 2 » . وتحقيقا لهذا الغرض ، انقلب الحلّاج سياسيا معارضا يبحث عن حلفاء وأنصار . وسرعان ما اتصل بالعلويين على نية القيام بحركة شبيهة بحركة الزنج المدمرة ، التي عاصرها في صباه وشبابه ، لتأسيس دولة مثل دولة الزيديين في طبرستان التي رآها رأي العين في أسفاره .
وهكذا روي أن الحلّاج قصد إلى الكوفة للتشاور مع أبي الحسن العلوي الذي كان ميالا إلى الصوفية وصديقا ومريدا لأبي علي الخواص ( ت 291 هـ / 903 - 4 م ) . وتم الاجتماع بحضور الخواص نفسه « 3 » . 
ويبدو أن هذا العلوي لم يكن مستعدا لهذه المغامرة ؛ ومن هنا اتجه الحلّاج إلى علوي آخر أكثر ثورية وأميل إلى المغامرة ؛ وأكثر تقبلا لآرائه هو أبو عمارة محمد بن عبد اللّه الهاشمي الذي يبدو أن اشتراكه مع الحلّاج في كنية واحدة هي « أبو عمارة » « 4 » ، كان يعني شيئا يتجاوز المصادفة إلى الوحدة الروحية
..........................................................................................
- القرآن وغيره ( ت 218 أو 219 هـ / 833 أو 834 م ) : « لا تنتهي حتى تصعد خشبة ، وكأني بك قد شغلت على الناس خشبة باب الجسر ، فاحذر » ( انظر : تاريخ بغداد 7 / 63 ، 66 ) .
( 1 ) أربعة نصوص ، نص ابن باكويه ، ص 28 ، تاريخ بغداد 8 / 113 .
( 2 ) في هذا المعنى قال ابن النديم : « وكان جاهلا مقداما مدهورا ( لعلها مزهوا ) جسورا على السلاطين مرتكبا للعظائم يروم انقلاب الدول . . . » ( ص 283 ) .المؤمنين » « 5 » . ولفت اسم أبي عمارة أنظار المصنفين فذكروا أن الحلّاجية كانوا يوردون فيه أنه « حلّت فيه روح محمد بن عبد اللّه ( ص ) » « 6 » ، وأنه « كان يخاطب في الأهواز بسيدنا ، وهي من أعلى المنازل عندهم » « 7 » ، وبذلك ساغ أن نصف أبا عمارة هذا بنبي الحلّاج « 8 » .ولعل أبا عمارة الصوفي المذكور هو المقصود بقول الثعالبي ( أبي منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري ، ( ت 429 هـ / 1038 م ) : « وقرأت في كتاب التحف والطرف لأبي لبيب غلام أبي الفرج البّبغاء [ . . . ] لأبي عمارة الصوفي في ثقيل خفيف على القلب ( من الخفيف ) :وثقيل لو كان في حسناتي ، * وجميع الأنام في سيّئاتي
..............................
( 1 ) انظر في هذا المعنى بحثا لماسينيون بعنوان « سلمان الفارسي والبواكير الروحية في الإسلام » وقد ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي وضمنه كتابه « شخصيات قلقة في الإسلام » وانظر في هذا الخصوص ص 19 ، وارجع إلى كتابنا : الصلة بين التصوف والتشيع ، ط 2 ، دار المعارف بمصر ، ص 197 .
( 2 ) نشوار المحاضرة 1 / 84 .
( 3 ) نشوار المحاضرة 1 / 174 . وجان بخش بالفارسية بمعنى باذل النفس ويدلّ على عراقة في الانتماء الفارسي . ولذلك تفنيد انظره في الموضع .
( 4 ) نشوار المحاضرة 1 / 174 . وجان بخش بالفارسية بمعنى باذل النفس ويدلّ على عراقة في الانتماء الفارسي . ولذلك تفنيد انظره في الموضع .
( 5 ) نشوار المحاضرة 1 / 174 . وجان بخش بالفارسية بمعنى باذل النفس ويدلّ على عراقة في الانتماء الفارسي . ولذلك تفنيد انظره في الموضع .
( 6 ) أيضا 1 / 177 .
( 7 ) أيضا 1 / 177 .
( 8 ) صلة عريب بن سعد القرطبي ( على هامش تجارب الأمم ) 1 / 86 .
« 32 »
لاستخفّ الذنوب بل ك * سر الميزان من ثقله على الكفّات
وله في ثقيل ( من الطويل ) :
ثقيل يراه اللّه أثقل من يرى * ففي كلّ قلب بغضة منه كامنه
مشى فدعا من ثقله الحوت ربّه * فقال : إلهي ، زدت في الأرض ثامنه !
( يتيمة الدهر ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد .
مطبعة السعادة بمصر 1377 ، 1 / 305 ) .
بعد هذا اتجه الحلّاج إلى الشيعة الاثنا عشرية في أيام محنة الغيبة الصغرى للمهدي عندهم ليتحالف معهم على مشاركتهم في حركته هذه التي تحقق لهم أعز هدف يتطلعون إليه ، وهو إسقاط الدولة العباسية التي اغتصبت السلطان من العلويين ثم انقلبت عليهم كما لم تنقلب الدولة الأموية نفسها .
وقصد الحلّاج إلى أبي سهل النوبختي للاتفاق معه - كما تذكر الكتب العامة « 1 » - أو إلى الحسين بن روح ( ت 326 هـ / 937 - 8 م ) الوكيل الثالث للمهدي أيام الغيبة الصغرى في رأي أتباعه - كما تذكر كتب الأثناء عشرية خطأ « 2 » - وتذكر أيضا أنه قصد إلى قمّ ، مركز الشيعة الأثناء عشرية في إيران حتى اليوم ، هادفا إلى استمالة أبي الحسن بن بابويه ، فخاب سعيه أيضا « 3 » . 
وفوق هذا ، ذكر الحلّاج ضمن كتابه « الإحاطة والفرقان » أسماء الأئمة الاثني عشر ابتداء من علي
...............................
( 1 ) انظر مثلا نشوار المحاضرة 1 / 81 ، تاريخ بغداد 8 / 124 ، المنتظم لابن الجوزي 6 / 62 / 163 وراجع أيضا روضات الجنات للخوانساري ( محمد باقر : 1226 - 1313 هـ / 1811 - 1899 م ) ، طهران 1307 هـ ، ص 227 .
( 2 ) انظر الغيبة للطوسي ( أبي جعفر محمد بن الحسين ، شيخ الطائفة ، ت 460 هـ / 1069 م ) ، ط . تبريز 1323 هـ ، ص 262 ، وذلك أن الحسين بن روح تسلم السفارة أو الوكالة أو النيابة من سلفه محمد بن عثمان بن سعيد المعروف بالشيخ الخلاني سنة وفاته في 304 هـ / 916 - 17 م أي بعد اعتقال الحلّاج بثلاث سنين ،، فإن كانت المراسلة تمت قبل سنة 304 هـ المذكورة لم يكن منها الفائدة المرجوة باعتبار الحسين بن روح رجلا من رجال الشيعة ، ويبقى احتمال المراسلة ، بعد ذلك وفي فترة زعامته للشيعة وهذه جائزة .
( 3 ) أيضا ص 262 - 1916 م .

« 33 »
وانتهاء بالمهدي « ثم نسق الأئمة نسق الأهلّة » « 1 » ، وصلا بقوله تعالى :( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً )( التوبة 9 : 36 ) ، على غرار ما صنعته الإسماعيلية من إصدار سباعاتهم إصدارا مقدسا يتصل بالعناية الإلهية ويتمثل في السباعات التي وضعها اللّه في الطبيعة كالكواكب السيارة والبحار وأيام الأسبوع وما إلى ذلك « 2 » .
وفوق هذا ذكر أن الحلّاجية كانوا يرون « أن الأئمة أنوار من نور اللّه تعالى وأبعاض من أبعاضه » « 3 » على نحو ما كان الغلاة يرون فيهم .
ولا يبعد أن يكون هذا المعنى مقصد الحلّاج حقا محاولة منه للصدور عن التشيع الذي ألفه وعاش في كنفه ، في شكليه الزيدي والقرمطي ، أثناء إقامته في إيران والبصرة وواسط من العراق ، وبخاصّة أن حركة القرامطة قد ظهرت في الكوفة وأطراف واسط سنة 278 هـ / 890 م « 4 » في أيام نضج الحلّاج وعلو شبابه .
لكن الاثنا عشرية أعرضوا عنه برواية المؤرخين من شيعة وغيرهم ، واتهمه الشيعة منهم بمنازعة رؤسائهم على الزعامة الدينية والقيادة المذهبية « 5 » . ولما يئس الحلّاج منهم تحول إلى القرامطة الذين خبرهم من قبل في أطراف العراق الجنوبي والأوسط ، وكانوا دعاة إلى الأئمة الفاطميين الذين بدأوا حركتهم في الشام على يد الإمام محمد الحبيب ( ت 297 هـ / 909 م ) ، قبل سنة 277 هـ المذكورة بالضرورة ، وجعلوا يحركون أتباعهم في أطراف العراق حتى قيّض لهم أن يؤسسوا
..............
( 1 ) البدء والتاريخ للمقدسي ( محمد بن طاهر ، ت بعد 350 هـ / 961 م ، ط . فرنسا 1899 - 1916 م ) 5 / 26 .
( 2 ) انظر الصلة بين التصوف والتشيع لكاتب السطور ص 198 .
( 3 ) البدء والتاريخ للمقدسي 5 / 129 .
( 4 ) المنتظم لابن الجوزي 5 / 110 وانظر تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص 229 .
( 5 ) يرد ذلك في المصادر الشيعية المذكورة آنفا ، ويذكر القاضي عبد الجبار خبرا ربما سببا وجيها لإعراض الشيعة عن الحلّاج من أنه « كان ربما ادعى أنه من أولاد رسول اللّه ( ص ) - على ما ذكر » ( المغني في أبواب التوحيد 15 / 270 ) ليغنيه هذا الادعاء - إن صح - عن تطلب رأس علوي لحركته والاقتصار من القيادة الفخرية والفعلية على نفسه . ولعل وصف الحلّاج بالسيد في رأس رسالة « تقييد بعض الحكم والأشعار » في مخطوط المتحف البريطاني رقم 9692Addدليل على ذلك .
« 34 »
دولتهم في تونس سنة 299 هـ / 910 م .
ومن غرائب الاتفاقات أن السنة التي أخبر ابن النديم أن فيها « ظهر أمر الحلّاج وانتشر ذكره » « 1 » هي سنة 299 هـ ، هذه التي تأسست فيها الدولة الفاطمية . ومن هنا لم يكن غريبا ظهور رقعة من رقاع الحلّاج وفيها قوله لمريد من مريديه : « وقد آن الآن أذانك للدولة الغراء الفاطمية الزهراء المحفوفة بأهل الأرض والسماء . . . ليكشف الحق قناعه ويبسط العدل باعه » « 2 » .
ولا بد لنا من وقفة هنا ؛ فالظاهر أن الحلّاج استقى شيئا من أفكاره وأسلوب عمله من الإسماعيلية الباطنية التي لم تكن قد سجلت آراءها الإعلامية ، كما يقال الآن ، في رسائل إخوان الصفا التي ظهرت في البصرة في نحو سنة 352 ه - 963 م وإن كانت على ألسنة الدعاة وفي عقول المريدين وأفهامهم . ومع أن من غير المقنع أن يحال إلى نص متأخر نحو نصف قرن بوصفه منبع فكرة سابقة عليه ، نجد من المفيد تسجيل رأي إخوان الصفا في القربان أو التضحية والفداء في سبيل اللّه وتقسيمهم له إلى قربانين : شرعي وفلسفي على نسق ما فعل الحلّاج في قطعته التي استشهدنا بشطر منها في ما مرّ وضمّناها ديوانه اللاحق لهذه المقدمة .قال إخوان الصفا : « واعلم ، أيها الأخ ، أن القربان كما ذكرنا قربانان : شرعي وفلسفي لا ثالث لهما . 
فأما القربان الشرعي فهو المأمور به في الحج من ذبح الحيوانات . . وأما الفلسفي فهو مثل ذلك إلا أن النهاية فيه التقرب بالأجساد إلى اللّه سبحانه وتعالى بتسليمها إلى الموت وترك الخوف كما فعل سقراط لمّا شرب السم » « 3 » ومن المفيد أيضا أن نشير إلى ظاهرة أخرى تجمع بين الحلاج و إخوان.

تابع قناة تجليات في واتساب وتلجرام: 
 👇👇👇👇 
 شربنا كأس من نهوى جهارا فصرنا بعد رؤيته حيارى قبس من الحب https://whatsapp.com/channel/0029VafyIYC8aKvG18G5he11

 https://t.me/Tagleiatsofia

ليست هناك تعليقات:

.ان غبت عنكم ولم ترونى

.ان غبت عنكم ولم ترونى
فهذه مشاركاتى ــ بالخير تذكرونى