الأحد، 9 نوفمبر 2025

٥ …شرح ديوان الحلاج (الحسين ابن المنصور الحلاج ) د. كامل مصطفى الشيبي

( 5 ) تاريخ ابن خلدون 3 / 371 .( 6 ) تاريخ ابن خلدون 3 / 371 .( 7 ) المنتظم 6 / 156 .« 47 »بالترفيه عن الجياع بل سرعان ما استغاث العمّال وجميع أصحاب الأرزاق بأنه [ علي بن عيسى وكيل حامد بن العباس ] حطّ من أرزاقهم شهرين من كل سنة ، فكثرت الفتنة على حامد « 1 » . ومع هذا كله بقي حامد في دست الوزارة إلى سنة 311 هـ / 924 م « 2 » . فكان من سوء حظه أن وقع دم الحلّاج في رقبته . وقد صار الحلّاج شهيد الصوفية وراصّ بنيان التصوّف على مرّ العصور ، وباء حامد بن العباس بالفضيحة وسوء الصيت ، وغدا اسمه مقترنا بالحلّاج كما اقترن اسم هابيل بقابيل واسم يزيد بالحسين واسم يهوذا الأسخريوطي بالمسيح ( ع ) .وإذا عدنا إلى الحقائق المتصلة بالسنين الأخيرة للحلّاج وجدناه ينقل من سجن إلى سجن خشية إنقاذ أتباعه له حتى استقر به الاعتقال في حبس منيع ، في ما يبدو ، ليكون تحت مراقبة الشرطة حتى يفصل في أمره . ويبدو أنه لم يكن رهن الاعتقال في ما دعي عندئذ بالسجن الجديد ، وهو السجن الذي حدث فيه الشغب سنة 306 هـ المذكورة ، وفرّ منه كثير من السجناء .ولهذا أشار ماسينيون - دون دليل - إلى « أن الحلّاج رفض الفرار من حبسه » « 3 » . والظاهر أنه كان قبل ذلك في « دار السلطان » ، أي دار الخلافة كما يفهم من سياق الحوادث .
وفي المعتقل الجديد ظهرت مواهب الحلّاج وبراعاته من « حسن عبارة وحلاوة منطق وشعر على طريقة التصوف » « 4 » .
ووجد الحلّاج في السجن طمأنينته وهدوء نفسه ، فانصرف إلى العبادة حتى قيل إنه « استمال أهل الحبس
................................
( 1 ) تاريخ ابن خلدون 3 / 373 .
( 2 ) المنتظم 6 / 180 .
( 3 ) المنحنى الشخصي للحلّاج ( ضمن شخصيات قلقة في الإسلام ص 75 ) . ولم يعين ماسينيون مصدر هذه الواقعة وما نعرفه من ذلك يتصل بقصة أسطورية جاءت في تذكرة الأولياء للعطار ( 2 / 113 ) ومحفل الأوصياء ( للأردستاني : علي أكبر حسين ، من رجال القرن الحادي عشر الهجري [ السابع عشر الميلادي ] ، مخطوط دائرة الهند بلندن رقمEthe45G، ورقة 265 ب ، وفيها الحلّاج كسر قيود ثلاثمائة سجين ممن كانوا ينزلون السجن معه وأطلقهم من السجن دون أن يفعل هو فعلهم رضي بالمصير الذي اختاره له اللّه .
( 4 ) تاريخ بغداد 8 / 112 .

« 48 »
بإظهار السنة فصاروا يتبرّكون به » « 1 » . وفوق هذا شغل الحلّاج نفسه بالتصنيف ؛ فعلاوة على كتاب « الطواسين » ، لا شك أنه كتب في السجن كتاب « السياسة والخلفاء» الذي ربما صنفه للمقتدر نفسه « 2 »، وكتاب « الدرّة » «3».
الذي صنّفه باسم نصر القشوري ، حاجب المقتدر؛ وكتاب « السياسة » الذي صنفه باسم الحسين بن حمدان « 4 »، القائد الذي قتله الخليفة بوشاية حامد بن العباس سنة 306 هـ / 918 - 19 م « 5 ».
وبهذا يتبين أن الحلّاج استمال موظفي القصر أيضا في فترة سجنه هذه ، وكان أولهم نصر القشوري الذي تسكت كتب التاريخ والسير عن ترجمته ( ت 316 هـ / 928 م ) « 6 » .
وقد ذكر - في ما يتصل بالصداقة التي توطدت أواصرها بين الحلّاج ونصر القشوري ، حاجب المقتدر - أنّ الأول « استغوى » الثاني « من طريق الصلاح والدين مما كان يدعو إليه » « 7 » ، وهو تعبير صاغه خصم لكنه يشفّ عن الجاذبية التي كان يتمتع بها الحلّاج حيال المحايدين من الناس ممن لا يدفعهم دافع ؛ من أوّل نظرة إلى الخصومة والتشنيع .
ولعلّ عبارة عريب القرطبي أدنى إلى أن خزانة علي بن عيسى الوزير كانت تحتوي على « دفتر منسوب إلى الحلّاج فيه آداب الوزارة » .
...............................
( 1 ) تاريخ بغداد 8 / 112 .
( 2 ) الفهرست لابن النديم ص 272 .
( 3 ) ذكر الصابي ( أبو الحسن الهلال بن المحسّن ، 359 - 448 هـ / 970 - 1056 م ) في كتابه « الوزراء » ، ( أو « تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء » ، تحقيق عبد الستار أحمد فراج ، مصر 1958 ) ، ص 231
..................................
فلعل هذا يرجّح تصنيف الكتاب باسم الخليفة ، وإن كان تصنيفه باسم الوزير عندنا أرجح تألفا لقلبه أو اعترافا بجميله لعدم إعدامه سنة 301 هـ لما قبض عليه والاكتفاء بالتشهير به ثلاثة أيام ، على نحو ما مر ، باعتبار هذا العقاب الحد الأدنى الذي لم يمكن فرض أقل منه على الحلّاج استجابة لضغط الحكومة .
( 4 ) الفهرست ص 272 .
( 5 ) الفهرست ص 272 .
( 6 ) قال فيه ابن الجوزي : « حجب المقتدر باللّه وتقدم عنده وكان دينا عاقلا . وخرج إلى لقاء القرامطة محتسبا [ ومتطوعا مجاهدا ] فأنفق من ماله مائة ألف دينار إلى ما أعطاه السلطان ، فاعتل في الطريق ومات في هذه السنة ( 316 هـ ) فحمل إلى بغداد في تابوت » ( المنتظم 6 / 220 ) .
( 7 ) تاريخ ابن خلدون 3 / 370 .
« 49 »
التعبير عن هذه الصلة الودّية بإفراغها في قوله : « وادّعى قوم أن نصرا مال إليه » « 1 » . لكن من الثابت أن نصرا كان يميل إلى الحلّاج إلى درجة الولاء وأنه ذهب في حمايته إلى حدّ مخاصمة علي بن عيسى في سبيله « 2 » .
وتطورت هذه المودّة إلى مدى بعيد ساغ معه لنصر القشوري أن يسمي الحلّاج بالشيخ الصالح « 3 »، وأن يقصد إلى دار الخليفة مستأذنا في « أن يبني له بيتا في الحبس » « 4 » .
وانتهى الأمر إلى أن ( بني له دارا بجنب الحبس وسدّوا باب الدار وعملوا حوله سورا وفتحوا بابه إلى الحبس ، وكان الناس يدخلون عليه قريبا من سنة . . . » « 5 » . وكانت الحجة الظاهرة لهذه الحماية ما قيل من أنّ نصرا كان يسبغها على الحلّاج لأنه « سنّي وإنما تريد قتله الرافضة ! » « 6 » ، وهي حجة واهية متهافتة أريد بها تسويغ هذه الحماية تسويغا طائفيا يغطي على براءة الحلّاج مما رمي به من تهم ظاهرها ديني وباطنها سياسي بحت .
وكان للحلّاج حام آخر في القصر هو أمّ المقتدر : شغب ، وكانت أم ولد من جواري المكتفي « 7 » ولقبت بالسيدة في أيام ولدها ، في ما يبدو ، لئلا تسمى باسمها « 8 » الصارخ الدلالة على ماضيها . وكانت « السيدة » ذات شخصية
..........................
وتمتلك الوقف . . . فقال لأم موسى القهرمانة [ لعلها ثمل الماضية ] : تقولين لأم المقتدر السيدة . اتقي اللّه ، هذا واللّه ما لا طريق إليه » . وقد ذكر ابن الجوزي أن المقتدر نفسه تدخل أيضا ليمنع ذلك ولم يرضه .
« 50 »
طاغيةقوية ، تتدخل في شؤون الدولة وتفرض رأيها فرضا ، وقد مرّ كيف أنها أسست مجلسا للمظالم . وواضح أن هذه السيدة التركية ، في ما يبدو ، كانت عامية العقلية تتأثر بمظاهر الصلاح كتأثّر العوامّ البسطاء وتأثّر الرجال في دار السلطان الذين « مالوا [ إلى الحلّاج ] وصاروا يتبركون به ويستدعون منه الدعاء » « 1 » .
ولهذا تحركت عاطفة الأمومة في « السيدة » لما « حمّ المقتدر وافتصد وبقي محموما ثلاثة عشرة يوما » « 2 » سنة 303 هـ / 916 م .
هنا رجا نصر القشوري الحلّاج أن يدخل على الخليفة « فرقّاه . . . . فاتّفق زواله عنه وكذلك وقع لوالدة المقتدر : السيدة ، فرقّاها فزالت عنها » « 3 » .
وقصة مثل هذه معقولة ومناسبة لمجرى الأحداث ؛ ويؤكدها أنّ نصرا والسيدة حاولا منع المقتدر من إعدام الحلّاج بعد صدور الحكم ، دون جدوى ، « فحمّ المقتدر يومه فازداد نصر والسيدة افتنانا وتشكك المقتدر فيه » « 4 » .
وهكذا عاش الحلّاج ناعم البال في قصر الخليفة - وإن كان يحسّ الأخطار تتهدده كل يوم من قبل حامد ورهطه . وجاءت النهاية في سنة 309 هـ / 922 م في ظروف عصيبة جابهتها الدولة من الشعب الثائر والجيش الشاغب والضمان الملغى لحامد الوزير بفعل ثورة الشعب والجيش .
وقد حاول حامد بن العباس أن يقمع الشعب ، وكان جلّه من الحنابلة الذين نما عددهم باضطراد من أيام انتصار أحمد بن حنبل على المعتزلة ونصرة المتوكل له قبل هذا التاريخ ، وفي سنة 232 هـ / 846 م بالتحديد .
وتحقيقا لهذا الغرض « أحضر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري [ المؤرخ المشهور ، ت 310 هـ - 922 م ] إلى دار علي بن عيسى لمناظرة الحنابلة ، فحضر ولم يحضروا فعاد إلى منزله . . . »
.............................
( 1 ) المنتظم 6 / 130 .
( 2 ) أيضا : 6 / 131 .
( 3 ) البداية والنهاية 11 / 140 ، وانظر المنحنى الشخصي للحلّاج من كتاب شخصيات قلقة في الإسلام ( ص 72 ) حيث أضاف ماسينيون إلى هذا إحياء الحلّاج لببغاء كان لولي العهد نقلا عن صلة عريب ( هـ . ص 92 ) ، وكأنه قصة حقيقية .
( 4 ) نشوار المحاضرة 1 / 83 .

« 51 »
والعشرين ، اتجه إلى قطاع آخر من العامة يدين بالولاء للحلّاج والصوفية على العموم من أصحاب القيم الروحية ، وكان كثير منهم يدين بمذهب ابن حنبل ، كصديق الحلّاج وتلميذه أحمد بن عطاء الأدمي « 4 » الذي ولم يغفر الحنابلة للطبري موافقته على مناظرتهم باعتبارها ضربا من المعارضة والتحالف مع الدولة على اضطهادهم
...........................
( 1 ) المنتظم 6 / 159 .
ومن هنا ، لما مات في سنة 310 هـ / 923 م « دفن ليلا . . . لأن العامة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار وادّعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد ! » ( المنتظم 6 / 172 ) .
وقد شرح ابن الجوزي هذه التعقيدات بأن الطبري كان يرى جواز المسح على القدمين ولا يوجب غسلهما ( كالشيعة ) فلهذا نسب إلى الرفض ( أيضا ) .
( 2 ) المنتظم 6 / 159 .
( 3 ) أيضا : 6 / 159 .
( 4 ) انظر مثلا أخذه عن الفضل بن زياد صاحب أحمد بن حنبل في تاريخ بغداد 5 / 26 وراجع المنحنى الشخصي للحلّاج من كتاب « شخصيات قلقة في الإسلام » ص 76 .
منقطع عن الدنيا منذ ثماني سنوات يزوره الناس من الطبقات كافة ، ويتوسلون إليه في الدعاء لهم ، ويتزاحمون على رؤيته والسماع منه . وهكذا انضم حامد إلى موكب الحاسدين الحاقدين على الحلّاج وجعل يتحيّن الفرص للإيقاع به وعيّن له غلاما من غلمانه لمراقبته انتظارا للفرصة « 3 » .
وجاءت اللحظة التي طال انتظارها . فقصّ علينا ابن زنجي - نجل
.............................
( 1 ) ذكر ابن الجوزي أنه توفي في ذي القعدة في ( المنتظم 6 / 160 ) .
( 2 ) ذكر ابن أبي الحديد ( عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة اللّه المدائني ، ت 655 هـ / 1258 م ) في شرح نهج البلاغة ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، مصر 1959 - 1964 م ، 11 / 141 ) أنه « كان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر وعلي بن عيسى الجراح وزيره أيضا على الحلّاج أنهما وجدا في كتبه لفظ النور الشعشعاني وذلك لجهالتهم مراد القوم واصطلاحهم ومن جهل أمرا عاداه »( 3 ) تأتي الإشارة إلى المرجع في ما بعد .

« 53 »
الإداري الذي عيّن مساعدا لحامد - تفاصيلها بقوله : « كنت أنا وأبي يوما بين يدي حامد إذ نهض مسرعا من مجلسه .
وخرجنا إلى دار العامة وجلسنا في رواقها وحضر هارون بن عمران الجهبذ بين يدي أبي ، ولم يزل يحادثه .
فهو في ذلك إذ جاء غلام حامد ، الذي كان موكلا بالحلّاج ، وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه ، فنهض مسرعا ونحن لا ندري ما السبب .
فغاب عنا قليلا ثم عاد وهو متغير اللون جدّا . فأنكر أبي ما رأى فسأله عن خبره فقال : دعاني الغلام الموكل بالحلّاج فخرجت إليه فأعلمني أنه دخل إليه ومعه الطبق الذي رسمه أن يقدم إليه في كل يوم فوجده قد ملأ البيت بنفسه فهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه حتى ليس فيه موضع ! فهاله ما رأى ورمى بالطبق من يده وعدا مسرعا ، وأنّ الغلام ارتعد وانتفض وحمّ . فبينما نحن نتعجب من حديثه إذ خرج إلينا رسول حامد وأذن في الدخول إليه ، فدخلنا .
وجرى حديث الغلام ، فدعا به فإذا هو محموم . وقصّ عليه قصّته فكذّبه وشتمه وقال : فزعت من نيرنج الحلّاج [ ! ] وكلاما في هذا المعنى - لعنك اللّه أغرب عني . فانصرف الغلام وبقي على حالته من الحمى مدة طويلة » « 1 » .
وعدّ حامد بن العباس هذا العمل من الحلّاج ، عبثا به هو شخصيا ومحاولة للنفوذ إلى جماعة غلمانه لصرفهم عنه والتآمر عليه ؛ فكان ذلك في مثل هذه الظروف الحرجة تحدّيا سافرا من الحلّاج وفرصة ذهبية لحامد بن العباس يشفي بها صدره ويثأر لكرامته التي نالت منها العامة .
وحشد حامد طاقاته كلها يجمع خيوط الاتهام لينسج منها شبكة يوقع فيها
..................................
( 1 ) تجارب الأمم لمسكويه ص 79 - . 80 وقد وصف المناوي ( أبو محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي الحدادي ، ت 1031 هـ / 1622 م ) ، هذه الظاهرة بالتطوّر وقال « وكان شأنه التطور فلما طلب للقتل تطور في البيت فملأه ، فأتاه الجنيد وقال : فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك . . » ( الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية ، الجزء الثاني ، مصر 1963 م ص 25 ) وظاهر أنه - وإن احتملنا تسمية هذه الظاهرة كذلك - إلا أن مجرى الحوادث لم يكن على الصورة التي رواها المناوي إذ معروف أن الجنيد سبق الحلّاج إلى الدار الأخرى بإحدى عشرة سنة .وإذا بنى بيتا وصام أياما ثم طاف حوله عريانا مرارا أغناه اللّه عن الحج . وإذا صار إلى قبور الشهداء بمقابر قريش في ( كاظمية الحالية شمال بغداد ) عشرة أيام يصلّي ويصوم ولا يفطر إلّا بشيء يسير من خبز الشعير والملح الجريش ، أغناه اللّه عن العبادة باقي عمره » « 4 » .
ولم يكتف حامد بذلك وإنما زيّن له ضميره أن يطعن الحلّاج في شرفه
.................
« كان من أهل بغداد ، وأنه كان شهما مثل الحلّاج وهو الذي أخرج كلامه للناس ضرب [ضربت] عنقه بباب الطاق بسبب ميله إلى الحلّاج ».
( 3 ) الكامل لابن الأثير 8 / 39 ، تاريخ بغداد 8 / 126 .
( 4 ) المنتظم 6 / 163 .

يـتــبـع


وذلك بزعمه أنه استدعى زوجة العباس نقل الحلّاج من حبسه إلى بيته هو مبالغة في الحرص وزيادة في الحيطة ، وكان يفتنّ في إهانته هناك . وذكر عريب القرطبي أن حامدا « كان يخرجه إلى من حضره ، فيصفع وتنتف لحيته » « 5 » ، وفي أثناء ذلك كان حامدا « يستنطقه فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة » « 6 » .


.................................


259 - 339 هـ / 872 - 951 م ) ، محتسب بغداد السابق « 6 » ، الذي كان قادما من مقر عمله القضائي في الشام « 7 » ليخلف ابن البهلول في منصبه « 8 » في ما يبدو . وكانت هذه الهيئة الثلاثية « 9 » مالكية برئيسها « 10 » ، حنفية بعضويها « 11 » ، و « لم يحضر الجلسة أحد من الشافعية » « 12 » ولا الحنابلة ، بالضرورة لأنهم كانوا خصوم الدولة ومعارضين لهذه المحاكمة على إطلاقها بتأثير أحمد بن عطاء الذي كان ينتمي إليهم « 13 » . ومع أن أعضاء المحكمة كانوا من مشاهير


...........................


( 12 ) المنحنى الشخصي للحلّاج : شخصيات قلقة في الإسلام ص 76 - 77 .


( 13 ) المنحنى الشخصي للحلّاج : شخصيات قلقة في الإسلام ص 76 - 77 .


« 57 »


القضاة ، وخصوصا رئيسها أبا عمر الحمادي الذي كان مضرب المثل في العدل والحلم والنزاهة والعلم « 1 » - وكانوا يمثلون أعلى المستويات في القضاء - إلا أنه لا مفر من ملاحظة ما انطوى عليه هذا التشكيل من تحيّز وسوء نية من قبل حامد بن العباس تحقيقا لرغبته العارمة في الانتقام ، فمن المعروف أوّلا : أن المالكية لا يجوّزون توبة الزنديق أصلا بعكس غيرهم من أتباع المذاهب الأخرى « 2 » ، وكان هذا هو موقف أبي عمر في أثناء المحاكمة « 3 » .
فكأنّ تعيين هذا القاضي ضمن هيئة المحكمة أريد به الحكم بالإعدام لا غيره . ومما يؤكد هذا أن الشافعيّة لم يمثّلوا في المحاكمة كما مرّ ، لسبب بسيط واضح هو قبولهم لتوبة الزنديق والحكم بإطلاق سراحه متى اعترف وتاب .
والشيء الآخر في هذه المحكمة أن اختيار أبي جعفر البهلول ربّما قصد به كبح جماح ( السيدة ) والدة الخليفة من التدخل في صالح الحلّاج باعتبار موقف القاضي السابق منها في القضية المذكورة آنفا .
من هنا يحتمل أن يكون اختيار أبي الحسين الأشناني - القاضي المفضّل عند السيدة نفسها - قد وقع تحت تأثيرها الشخصي ليقف في صف الحلّاج .
لكن هذا القاضي وقع فريسة سهلة ، لرهبة حامد بن العباس أو رغبته ، ومال مع رأي القاضي المالكي المذكور .
ويبدو أن الثمن كان قضاء الرصافة أو مدينة المنصور الذي عين فيه في ما بعد ولم يستمر فيه إلا ثلاثة أيام فقط ، وآخر ما يتصل بتحيّز هذه الهيئة أن حامدا حشد لها عددا وافرا من الشهود وكافأ رئيسهم بمنصب قضائي فخري في القاهرة « 4 » ليكون بمنجاة من انتقام أنصارالحلّاج .
..........................
( 1 ) تاريخ بغداد 3 / 401 ، وذكر البغدادي هنا « أن الإنسان كان إذا بالغ في وصف رجل قال : كأنه أبو عمر وإذا امتلأ الانسان غيظا قال : لو أني أبو عمر القاضي ما صبرت » ( الموضع نفسه ) . انظر أيضا : العبر للذهبي 2 / 183 ؛ شذرات الذهب 2 / 386 ؛ الديباج المذهب لابن فرحون ص 241 - 242 .
( 2 ) راجع نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار للشوكاني ( محمد بن علي بن عبد اللّه 1173 - 1250 هـ / 1760 - 1834 م ) ، الجزء السابع ، مصر 1380 ه / 1961 م ، ص 203 - 5 .
( 3 ) نشوار المحاضرة 1 / 83 .
( 4 ) المنحنى الشخصي للحلّاج : ( شخصيات قلقة في الإسلام ) ، ص 77 ) وبالنسبة للشهود وكذا الفقهاء ، انظر ابن الأثير 8 / 39 .
« 58 »
ومما يؤخذ على هذه المحاكمة في عمومها أنها أفرغت في قالب ديني وإن كانت في أساسها سياسية ؛ ومن هنا كان ينبغي أن تكون إسلامية دينية يومئذ . وبذلك يكون الحكم عادلا غير متحيز . أما أن يسلط على عنق المتهم حاكم ذو اتجاه معروف مقدّما فليس من العدل في شيء ولو من حيث المظهر فقط .
مهما يكن الأمر ، فقد جرت محاكمة الحلّاج على أساس من استجوابه في ما نسب إليه بمراجعة أدلّة الإتّهام وفحص مستنداته التي قدّمها جميعا خصمه حامد بن العباس اعتمادا على الشهود من ناحية وعبارات الحلّاج في كتبه المشعرة بالردّة والخلاف من ناحية أخرى . ومضت الأسئلة والأجوبة واستعراض المصنّفات في صالح الحلّاج إلى أن وصل الدور إلى فقرة الحجّ ، كما وردت في أدلّة الاتّهام ، وكما نصّ عليها كتابه « الصدق والإخلاص » - الآتي في مصنّفاته ، في رأينا . ولما توقّف أبو عمر القاضي مستفسرا عن مصادرها كان جواب الحلّاج أنّه وجد حكمها في كتاب « الإخلاص » للحسن البصري « 1 » الزاهد المشهور ( ت 110 ه : 758 م ) .
.......................
( 1 ) تجارب الأمم لمسكويه 5 / 160 ، الكامل لابن الأثير 8 / 39 ، تاريخ أبي الفداء ، طبع ليدن 2 / 342 تاريخ ابن الوردي ( عمر بن المظفر المصري ، 691 - 749 هـ / 1292 - 1349 م ) مصر 1285 هـ ، 1 / 256 الخ . . .
وبالنسبة لكتاب الإخلاص المذكور ، عده الحاج خليفة ( مصطفى بن عبد اللّه الشهير بكاتب جلبي ، ت 1067 ه / 1658 م ) مصنفا تاريخيا استنادا إلى خبر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد نقلا عن النكت الوفية الذي لا يرد عنه شيء في كشف الظنون . وخلص الحاج خليفة في النهاية إلى أنه « فهذا إقرار من أبي عمرو ( كذا ) أن كتاب الإخلاص للحسن ، فهو أول مصنف مطلقا » ( كشف الظنون إسطنبول ، 1366 هـ ، 2 / 259 ) . والحق أن هذا تشكيك في الكتاب كما يأتي . ولقد ذكر الصولي ( محمد بن يحيى ، ت 335 هـ / 947 م ) بنقل ابن الجوزي ، أن هذا الكتاب « هو كتاب السنن » للحسن البصري لا « الإخلاص » ( المنتظم 6 / 163 ) وذكر ابن تيمية أنه كتاب « الصلاة » في « جامع الرسائل » له ( ص 189 ) . وفي ما يتصل بمعنى الإخلاص ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار ( 2 / 283 ) عن ابن عباس أنه « هكذا ، وبسط يده اليمنى وأشار بإصبعه من يده اليسرى » . وأضاف ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد ( تحقيق أحمد أمين وزميليه ، 3 / 221 ) أن ابن العباس « بسط يده اليسرى وأشار بإصبعه من يده اليمنى » . وزاد النويري في نهاية -
« 59 »
ومع أن الحسن البصري لم يكن ثقة في الحديث بل وصفه ابن سعد ( محمد الزهري ت 230 هـ : 844 م ) بكونه ( ليس بحجة ) « 1 » ، ووصفه الذهبي ( شمس الدين
........................
داره فيعمل به محرابا ويغتسل ويحرم ويقول كذا ويفعل كذا ويصلي كذا ويطوف بهذا البيت كذا ويسبّح كذا : أشياء قد رتبها وذكرها من نفسه . قال : فإذا فرغ من ذلك فقد سقط عنه الحج إلى بيت اللّه الحرام . وهذا شيء معروف عند الحلّاجية ؛ وقد اعترف ( به ) لي رجل منهم - يقال :
إنه عالم لهم -ولكن ذكر أن هذا رواه الحلّاج عن أهل البيت - صلوات اللّه عليهم - وقال : ليس عندنا أنه يستغنى به عن الحج ، ولكن يقوم مقامه لمن لا يقدر على الخروج بإضافة أو منع أو علة ، فأعطى المعنى وخالف في العبارة .
( و ) قال لي أبو الحسن : « فسئل الحلّاج عن هذا - وكان عنده أنه لا يستوجب عليه شيئا - فأقرّ به وقال : هذا شيء رويته كما سمعته ، فتعلق بذلك عليه » ( نشوار المحاضرة 1 / 82 ) ، وإن كان لهذه العبارة أصل فلعله إسماعيلي وأمارة ذلك عبارة « صلوات اللّه عليهم » التي تساق إلى الأئمة عندهم ( انظر الملحق 3 و 11 من كتاب المعز لدين اللّه للدكتور حسن إبراهيم حسن مصر 1948 م ، ص 307 - 342 ) .وقد ورد هذا الضرب من الحج عند أصحاب وحدة الوجود ؛ فقال لسان الدين بن الخطيب ناقلا كلام ابن العربي الحاتمي الطائيالحاتمي الطائي منهم : « الحج حج ثان لا يثني نفس المريد عنه ثان .
طريقه التجريد وزاده الذكر وطوافه المعرفة وإفاضته الفناء .فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
الغرام صعب المرام والدخول فيه حرام ما لم يكن فيه شروط كرام . من عرف ما أخذ هان عليه ترك » ( روضة التعريف بالحب الشريف ، ص 373 ، وانظر « رسالة الإسراء إلى مقام الأسرى » لابن العربي الحاتمي الطائي في رسائله ، حيدر آباد 1942 م - 48 ) .( 1 ) الطبقات الكبرى ، ليدن 1917 - 28 م ، 7 : 1 / 114 .
« 60 »
محمد بن أحمد التركماني ) ، ( ت 748 هـ / ت 1347 م ) بعدئذ بقوله : « مدلّس فلا يحتج بقوله عمّن لم يدركه ، وقد يدلّس عمن لقيه من بينه وبينه ، واللّه أعلم » « 1 » ، أصرّ أبو عمر القاضي على أنه رأى الكتاب المذكور في مكة ولم يكن هذا النصّ فيه « 2 » .
في هذه اللحظة غضب القاضي الحليم الهادئ وأفلتت منه عبارة « يا حلّال الدم » « 3 » .
فتعلق بها حامد تعلق الغريق بطوق النجاة ، ولم يفد القاضي تشاغله ولا محاولته التملّص أو الاعتذار ، وكان للوزير ما أراد .
ولم يكن الحلّاج يتوقع أن يكون تسليمه بهذا النقل مدعاة للحكم عليه بالإعدام ، ومن هنا احتج بشدة وجعل يصرخ في المجلس « ظهري حمى وجسمي حرام ، وما يحل لكم أن تتأوّلوا عليّ بما يبيحه ( الدين ) . اعتقادي الإسلام ومذهبي السنّة ولي كتب في الورّاقين موجودة في السوق . فاللّه اللّه في دمي » « 4 » .وكان الحلّاج يقول هذا « والقوم يكتبون خطوطهم ، حتى كمل الكتاب بخطوط من حضر وأنفذه حامد إلى المقتدر » « 5 » .
ولم يسلّم الحلّاج بهذه النتيجة وإنما تحدّى قضاته إلى المباهلة أي الملاعنة وتحكيم اللّه في المخطئ المذنب من أحد الطرفين المتنازعين « 6 » . لكن الأمر كان قد بلغ غايته ، وكان حامد بن العباس يستعجل تصديق الخليفة على الحكم وتحديد طريقة الإعدام . ولما بلغ نصرا القشوري الخبر فوجئ به ولجأ إلى السيدة والدة الخليفة محاولة منه لإلغاءالحكم أو أستصدار عفو عن الحلّاج أو تأجيل التنفيذ فيه .
..............................
محيي الدين عبد الحميد ، مصر 1948 ، 1 / 406 ) .
( 4 ) المرجع السابق ، المواضع نفسها .
( 5 ) المرجع السابق ، المواضع نفسها .
( 6 ) الفهرست ص 271 ، رسالة ابن القارح ( في مقدمة رسالة الغفران ط 4 ، ص 38 ) ، وانظر المباهلة في سيرة ابن هشام ، مصر 1936 م ، 2 / 222 - 33 ؛ وآية المباهلة في سورة آل عمران ( 3 : 61 ) .
« 61 »
وبدأ نصر هذه المحاولة بتخويف السيدة من مغبة قتل الحلّاج وقال لها : « لا آمن من أن يلحق ابنك - يعني المقتدر - عقوبة هذا الشيخ الصالح .
فمنعت المقتدر من قتله فلم يقبل وأمر حامدا فأمر بقتله . فحمّ المقتدر يومه ذلك ، فازداد نصر والسيدة افتتانا .
وتشكك المقتدر فيه ؛ فأنفذ إلى حامد من بادره بمنعه من قتله . فتأخر [ فأخّر ] ذلك أيّاما إلى أن زال عن المقتدر ما كان يحذر من العلة .
فاستأذنه حامد في قتله فضعّف الكلام ، فقال حامد : يا أمير المؤمنين ، إن بقي قلب الشريعة وارتدّ الخلق على يده وأدّى ذلك إلى زوال السلطان ، فدعني أقتله وإن أصابك شيء فاقتلني .
فأذن في قتله ، فعاد فقتله من يومه لئلّا يتلوّن المقتدر » « 1 » ، وكان تصديق المقتدر على الحكم مقترنا بصورة تنفيذه على شكل فظيع لم تجر العادة به في مثل حالة الحلّاج ، وقداستعمل فيه السوط الذي يكون في « الحدود كلّها وفي التعزير » « 2 » ،والسيف « الذي لا يقع إلّا بين كتفي زنديق » « 3 » والصلب الذي يكون في العادة لقطّاع الطرق والمحاربين


تابع قناة تجليات في واتساب وتلجرام: 
 👇👇👇👇 
 شربنا كأس من نهوى جهارا فصرنا بعد رؤيته حيارى قبس من الحب https://whatsapp.com/channel/0029VafyIYC8aKvG18G5he11 
 https://t.me/Tagleiatsofia

ليست هناك تعليقات:

.ان غبت عنكم ولم ترونى

.ان غبت عنكم ولم ترونى
فهذه مشاركاتى ــ بالخير تذكرونى