قال إخوان الصفا : « واعلم ، أيها الأخ ، أن القربان كما ذكرنا قربانان : شرعي وفلسفي لا ثالث لهما .
فأما القربان الشرعي فهو المأمور به في الحج من ذبح الحيوانات . . . وأما الفلسفي فهو مثل ذلك إلا أن النهاية فيه التقرب بالأجساد إلى اللّه سبحانه وتعالى بتسليمها إلى الموت وترك الخوف كما فعل سقراط لمّا شرب السم » « 3 » .
ومن المفيد أيضا أن نشير إلى ظاهرة أخرى تجمع الحلّاج وإخوان
..........................................................................................
( 1 ) الفهرست ، ص 270 - 284 .
( 2 ) نشوار المحاضرة ص 86 .
( 3 ) رسائل إخوان الصفا 4 / 208 .
« 35 »
الصفا في صعيد واحد . ذلك أن إخوان الصفا أشاروا ، في رسائلهم ، إلى أن لهم أعوانا ودعاة من طبقات الناس كلها من أولاء الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتّاب وأولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتنّاء ( المرابطين ) وأولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين وأولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس « 1 » .
وذكروا أنهم يستطيعون معاونة أنصارهم بكل وسيلة عن طريق هؤلاء .
« . . . وإذا عرفت منهم أحدا وأنست منهم رشدا فعرّفنا حاله وما هو بسبيله من أمور دنياه وطلب معاشه وتصرفه في حالاته لكي نعرف ذلك ونعاونه على ما يليق به من المعاونة . . . وإن كان ممن يرغب في العلم والحكمة والأدب وأمر الدين وطلب الآخرة علّمناه مما علّمناه اللّه عزّ وجلّ ، وألقينا إليه من
..........................................................( 1 ) أيضا 4 / 214 - 15 .
( 2 ) هامش تجارب الأمم 1 / 86 .
( 3 ) انظر كتابنا : الصلة بين التصوف والتشيع ص 370 .
« 36 »
حكمتنا وأطلعناه على أسرارنا بحسب ما يحتمل عقله وتتسع له نفسه وتتوق همّته - إن شاء اللّه عزّ وجلّ » « 1 » . يضاف إلى هذا أن الإسماعيلية بشّروا بمذهب جامع لا يضادّ عقيدة وإنّما يقبل كل شيء ثم يؤّوّله تأويلا يضعه ضمن عقيدته ، وهو ما فعله الحلّاج من إفادته من آراء الهنود والفرس ومذاهب المتكلمين والفلاسفة وأصحاب الكيمياء والطب والسحر « 2 » . ، واستغلها كلها في نشر عقيدته وكسب الناس إلى صفه .
وهذا - في رأينا - هو تفسير ما نسب إليه من مخاريق لا بد أنه تعلّمها في الهند بلد السحر والمخرقة إلى يومنا هذا .
مهما يكن الأمر فقد كانت الأحوال السياسية غير مستقرة في بغداد وكان المجتمع العراقي يغلي بعد الانقلاب الفاشل الذي راح ضحيته ابن المعتز ورجال الدولة الممتازون سنة 296 هـ / 908 - 9 م ، هذا إلى قيام دولة زيدية في طبرستان ودولة فاطمية في تونس ، وتهديد القرامطة المستمر للعراق نفسه . وفوق هذا كانت الأحوال الاقتصادية سيئة والأرزاق محبوسة عن الجند والأسعار عالية « 3 » ، وكل ما في الدولة يدل على السقوط والانهيار .
..........................................................................................
( 1 ) رسائل إخوان الصفا 4 / 215 .
( 2 ) بالنسبة للطب والكيمياء انظر : صلة عريب ( ص 89 ) والمنتظم 6 / 16 ، ومرت الإشارة إلى السحر في خبر ابن تيمية . وعن إحراز الباحثين العرب والمسلمين من القدماء لهذه الثقافات الواسعة نثبت هنا نصا نقله أستاذنا الدكتور محمد طه الحاجري في كتابه ( الجاحظ : حياته وآثاره دار المعارف 1962 ، ص 170 ، عن مجموعة برلين من مختارات ، الجاحظ : ورقة 75 ) وصف فيه الجاحظ أستاذه إبراهيم بن سيار النظام بأنه « كان فرضيا عروضيا ، وكان حاسبا منجما وكان نسابا وكان حافظا للقرآن العظيم وتفسيره وللتوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء .
وكان قد عالج الكيمياء وعرف مذاهبها ، وكان أروى الناس لكلام الأوائل ولصنوف نحل الإسلام ، وأحسن الناس احتجاجا وأبلغهم عند الاحتجاج لسانا . . . وكان صاحب حديث عالما وكان له نسك ، وخالط الصوفية وأصحاب المضمار وعرف اختلافهم ، وكان يقول الشعر إذا أراده ، وكان يستخرج المعمى ، وكان حسن العلم بالنحو » .
( 3 ) انظر مروج الذهب للمسعودي 2 / 396 .
« 37 »وفي سنة 299 هـ / 911 - 12 م ، وفي أيام وزارة ابن الفرات ( علي بن محمد بن موسى ، الذي قتل مصادرا سنة 312 هـ / 924 م ) ، الأولى أحست الدولة بالجهد الذي يبذله الحلّاج في الثورة عليها « 1 » ، أو إسقاطها من الداخل ، وذلك حين وشى به رجل من أهل البصرة كان من أنصاره وانفصل عنه « 2 » ؛ فجدّت الشرطة في البحث عنه دون جدوى ودامت المطاردة سنتين .
وفي سنة 301 هـ / 913 - 14 م ، قبض السلطان على غلام للحلّاج يعرف بالدبّاس « وأطال حبسه وأوقع به مكروها وخلّاه بعد أن كفله وأحلفه أن يطلب الحلّاج ، وبذل له مالا وكان يجول البلاد خلفه » « 3 » .
وفي هذه السنة كشفت امرأة النقاب عن وجود الحلّاج في السوس وذكرت للشرطة أنه « قد نزل في دار رجل يعرف بالحلّاج وله قوم يصيرون إليه في كل ليلة خفية ويتكلمون بكلام منكر . . . « 4 » » . وكان أن قبض عليه أبو الحسن علي بن أحمد الراسبي « 5 » . ( ت 301 هـ / 913 م ) الذي كان يتقلد من حدّ واسط إلى حد شهرزور وكورتين من كور الأهواز : جنديسابور والسوس ، وبادرايا وباكسايا « 6 » ؛ فكانت السوس ضمن أعماله .
ويبدو أن الراسبي سلم الحلّاج إلى حامد بن العباس ( الوزير الذي قتل الحلّاج في أيام وزارته ، وقتل هو مصادرا سنة 311 هـ / 924 م ) ، الذي كان يومئذ يلي واسطا ، وواجه الحلّاج عند محاكمته بقوله : « ألست تعلم أني قبضت عليك بدور الراسبي وأحضرتك ؛ فكيف ادّعيت بعدي الإلهية ؟ « 7 » » .
مهما يكن الأمر فقد قبض على الحلّاج في هذه المواضع ، ومعه أخو زوجته وانتهى الأمر بأن « حمل فأدخل مدينة السلام ( بغداد ) على جمل ومعه
..................................
( 1 ) انظر إشارة ابن النديم السابقة .
( 2 ) كتاب العيون والحدائق لمجهول ، على هامش تجارب الأمم ، 1 / 86 .
( 3 ) الفهرست ص 27 .
( 4 ) أيضا ، ص 284 .
( 5 ) المنتظم 6 / 162 . وقد ذكر ابن الجوزي قبل ذلك أن الذي قبض على الحلّاج هو عبد الرحمن خليفة علي بن أحمد الراسبي ، أي نائبه أو وكيله بلغة عصرنا ( 6 / 122 ) .
( 6 ) معجم البلدان لياقوت الحموي ، مادة « دور راسب » .
( 7 ) أربعة نصوص ، النص الأول ، ص 7 .
« 38 »
غلام له على آخر مشتهرين ونودي عليه : هذا أحد القرامطة فاعرفوه ، وحبس » « 1 » . وكانت القرمطة تهمة ليس عليها دليل مادي ، والظاهر أنها كانت أسرع التهم إلى الأفواه وأسهلها تسويفا ؛ فقد كان القرامطة أعداء العصر وكانت القرمطة تهمة العصر « 2 » .........................................
( 1 ) المنتظم 6 / 115 .
( 2 ) لقد كانت الدولة العباسية تخشى القرامطة إلى حدّ فقدت معه صوابها معهم ، ومن هنا لما هزم القرامطة سنة 291 هـ - 903 - 4 م وأسر منهم جماعة فيهم قائد لهم يسمى زكرويه ويلقب بصاحب الشامة ، تفنن المكتفي الخليفة في إهانته ورسم الخطط لقتله أفظع قتلة .
وانتهى الأمر بأن « دخل المكتفي بغداد ، والأسرى بين يديه مقيّدون ورئيس القوم قد جعل في فيه خشبة مخروطة وشدّت إلى قفاه كهيئة اللجام ! » ( المنتظم 6 / 23 ) ، ولم يكتف المكتفي بذلك بل أمر « ببناء دكة في المصلى العتيق من الجانب الشرقي ارتفاعها عشرة أذرع وبني لها درج . فلما كان يوم الاثنين لسبع بقين من ربيع الأول ، أمر المكتفي القواد والغلمان بحضور الدكة ، فحضرها الناس .
وجئ بالأسرى - وهم يزيدون على ثلاثمائة - وجيء بالقرمطي الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة فصعد به إلى الدكة وقدم له أربعة وثلاثون من الأسرى ، فقطعت أيديهم وأرجلهم وضربت أعناقهم واحدا بعد الآخر . ثم قدم كبيرهم فضرب مائتي سوط وقطعت يداه ورجلاه وكوي بالنار ثم أحرق ورفع رأسه على خشبة . ثم قتل الباقون وصلب بدن القرمطي في طرف الجسر الأعلى » ( المنتظم 6 / 23 ) .
وهذا نموذج من المثلة التي عاناها الحلّاج كلها كما يأتي .
والمهم أن الإسماعيليين أو الفاطميين - وكانوا أولياء القرامطة ومحركيهم - ذكروا هذا الحادث ونصوا على أن المقبوض عليه كان « أبا مهزول بن أبي محمد » وأنه وأخويه كانوا ينوون اغتيال الإمام لعزله إياهم عن قيادة الدعوة بعد موت أبيهم سنة 290 هـ - 902 - 3 م .
وجاء الخبر هكذا : « ولما رجع القرمطي إلى بغداد شهر ونودي عليه ونصبت الدكة للمعتضد ( الصحيح المكتفي ) وفرش له البرمية حتى يشرف على قتله وهو يضرب بالسوط ، فقد كانوا يقولون : من أنت ؟ وأيش أنت أصلك ؟ ولمن كنت تدعو ؟
فقال لهم : ما أنا من أهل الرياسة ولا من أهل القرمطة ، إنما أمرني بالخروج رجل ، وهو فلان بن فلان من مدينة سلمية يعني المهدي عليه السلام - وهو من صفته كذا وكذا بصفته . وكتب صفته على ما وصف الملعون .
ثم مات - لعنه اللّه - بالعذاب وأحرق بالنار » ( استتار الإمام : مذكرات في حركة المهدي الفاطمي لأحمد بن إبراهيم النيسابوري ، من إسماعيلية القرنين الثالث والرابع الهجريين / التاسع والعاشر الميلاديين ، نشر ، إيقانوف ، مجلة كلية الآداب ، ( القاهرة ، ديسمبر 1938 م ، ص 106 ) . وكان من رواج هذه التهمة في ذلك الوقت وبعده بقليل أن ابن الفرات ، الوزير الذي أمر بإلقاء القبض على الحلّاج لأول مرة ، قد اتهم بالقرمطة لما صودر -
يتبع
تابع قناة تجليات في واتساب وتلجرام:
👇👇👇👇
شربنا كأس من نهوى جهارا فصرنا بعد رؤيته حيارى قبس من الحب https://whatsapp.com/channel/0029VafyIYC8aKvG18G5he11
https://t.me/Tagleiatsofia
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق